(باب) المُشْرِكُ لا يَعرِفُ مَعنَى لا إله إلّا الله

تنبيه: تحميل الكتاب كاملا على صيغة pdf مِن أسفَلِ هذه الصفحة)

(باب) المُشْرِكُ لا يَعرِفُ مَعنَى لا إله إلّا الله

 

فصل: العِلْمُ بِالمعنَى مِن شُروطِ شَهادَةِ الإسلام

لا شكَّ أنّ المرْءَ لا يمكن أن يكون مُسلماً إلّا إذا حقَّق شرطَ العلم بِشهادة أن لا إله إلّا الله. لا بدَّ أن يعلم المعنى وأن يعمَل به عن علمٍ وقصدٍ، وهذا معلوم في بدائه العقول. إذ لو أنّ رجلاً لا يعرف العربيّة سمِع (لا إله إلّا الله) فَنطق بمثل ما سمع دون أيِّ علمٍ بمعناه، فإنّه ليس مسلماً بنطقه بالشهادة بإجماع المسلمين. قال تعالى:

﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ … (19)﴾ (محمّد)

قال الطبري في الآية:

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: فَاعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ تَنْبَغِي أَوْ تَصْلُحُ لَهُ الْأُلُوهَةُ، وَيَجُوزُ لَكَ وَلِلْخَلْقِ عِبَادَتُهُ، إِلَّا اللَّهُ الَّذِي هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ، وَمَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، يَدِينُ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ كُلُّ مَا دُونَهُ

وقال البخاري في الصحيح:

بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] فَبَدَأَ بِالعِلْمِ

وعند مسلم:

عَنْ عُثْمَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ.

والمشرك الجاهل لا يعلم معنَى التوحيد، ولو علِم معنى التوحيد ما كان مشركاً جاهلاً أصلاً، بل كان عندئذٍ عالماً بِبطلانِ الشِّرك ومع ذلك معانداً مُصِرّاً على إظهار شركه.

وقال ابن منده في كتاب الإيمان

ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَائِلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مُسْتَيْقِنًا مُعْتَقِدًا بِهَا قَلْبُهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ

ثم ذكر الحديث الذي عند مسلم، أن رسول الله ﷺ قال لأبي هريرة رضي الله عنه:

«اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ، فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ»

وعند النَّسائي والطبراني وابن منده وغيرهم، واللفظ للنسائي:

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ مَاتَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، مُوقِنًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»

وبوَّب أبو عوانة في المستخرج:

بَيَانُ الْأَعْمَالِ وَالْفَرَائِضِ الَّتِي إِذَا أَدَّاهَا بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الْإِقْرَارُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ قَلْبُهُ وَيُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بِمَا يُحَرَّمُ بِهِ عَلَى النَّارِ

ثم ساق عدداً من الأحاديث قد سبق ذكرُ كثيرٍ منها في هذا الكتاب وبعضها في معناها.

قال محمّد بن نصرٍ  في تعظيم قدر الصلاة:

وَكَذَلِكَ حِينَ أَجَابَ النَّبِيُّ ﷺ جِبْرِيلَ بِقَوْلِهِ: «الْإِسْلَامُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» لَمْ يُرِدْ شَهَادَةً بِاللِّسَانِ كَشَهَادَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَلَكِنْ أَرَادَ شَهَادَةً بَدْؤُهَا مِنَ الْقَلْبِ بِالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ.

وروى مسلم في الصحيح عن النبي ﷺ قال:

أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ

وكيف يكون غيرَ شاكٍّ في أمرٍ مَن لا يعلم معناه أصلاً؟

 

فصل: مَعْنَى الشَّهادَةِ أنْ يَعْلَمَ الشَّاهِدُ ما شَهِدَ بِه

﴿… إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)﴾ (الزخرف)

لفظ الشهادة يتضمّن عِلمَ الرجل بما يشهد به، فهذا شرط لصحَّة شهادته. فإذا لم يتحقّق هذا العِلم كانت شهادةَ زورٍ وكذبٍ، فلا تُتصوّر شهادةٌ دون علمٍ وفهمٍ لما يشهد به.

جاء في تفسير مقاتل بن سليمان:

{وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ} يقول لا تقدر الملائكة الذين يعبدونهم من دون الله الشفاعة، وذلك أنَّ النضر ابن الحارث ونفراً معه قالوا: إن كان ما يقول محمّد حقّاً فنحن نتولَّى الملائكة وهم أحقُّ بالشفاعة من محمّدٍ ﷺ فأنزل الله «وَلا يَمْلِكُ» يقول ولا يقدر «الذين يدعون من دونه» وهم الملائكة «الشَّفَاعَةَ»، يقول لا تقدر الملائكة الذين تعبدونهم من دون الله على الشفاعة لأحد،

ثمَّ استثنى فقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} يعني بالتوحيد من بني آدم، فذلك قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنّ الله واحد لا شريك له فشفاعتهم لهؤلاء قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ} يعني أهل مكة: كفّارهم {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وذلك أنَّه لمَّا نزلت في أوَّل هذه السورة «خلق السموات والأرض» نزلت في آخرها «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»

فقال لهم النبيُّ ﷺ: من خلقكم ورزقكم وخلق السموات والأرض؟ فقالوا: الله خالق الأشياء كلِّها، وهو خلَقنا.

قال الله تعالى لنبيِّه ﷺ قُل لهم: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} يقول مِن أين يكذبون بأنَّه واحد لا شريك له، وأنتم مقرُّون أنَّ الله خالق الأشياء وخلقكم، ولم يشاركه أحد في ملكه فيما خلق؟ فكيف تعبدون غيره؟

وبه تَفهم معنى قولِ النبيّ ﷺ الذي رواه أحمد في المسند:

عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ” مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ”

فقد عرفتَ معنى الشهادة وأن لا شهادةَ إلّا بِعلم. ثم زاد عليه بياناً وتأكيداً هاهنا أن يشهدَ صادقاً مِن قلبِه، وهذا يستحيل عند من لا يعرف المعنى أصلاً.

 

فصل: سُؤالُ المَلَكَيْنِ فِي القَبْر

جاء عند أحمد وغيره الحديثُ الطويل عن سؤال الملَكين في القبر، وفيه عن روح الكافر:

فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ “، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]

فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ” اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا “. ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ، فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]”

فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا، وَسَمُومِهَا …

وفيه عن روح المؤمن:

فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ، يَعْنِي بِهَا، عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ،

فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى “. قَالَ: ” فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟

فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ “. قَالَ: ” فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا، وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ

فكلٌّ يُسأَل عن علمه، فكيف يثبت في هذا المقام مَن ليس له علمٌ بحقيقة لا إله إلا الله؟

وأصل الحديث عند البخاري قال:

يُؤْتَى أَحَدُكُمْ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا المُؤْمِنُ – أَوِ المُوقِنُ، لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ – فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا، وَأَمَّا المُنَافِقُ – أَوِ المُرْتَابُ لاَ أَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ – فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ

وفي ذلك قول الله تعالى في سورة إبراهيم:

﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)

روى الطبري – ومثله عند ابن أبي حاتم، والأخبار في هذا الأمر كثيرة مستفيضة:

• عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» قَالَ: ” فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]”

• عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي جِنَازَةٍ فَقَالَ: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا … وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ، فَيُقَالُ لَهُ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: مَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ، وَلَا تَلَيْتَ، وَلَا اهْتَدَيْتَ

• عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم: 27] قَالَ: ” لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] الْمَسْأَلَةُ فِي الْقَبْرِ”

• عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ … فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا النَّبِيُّ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، لَا أَدْرِي. قَالَ: فَيَقُولَانِ: لَا دَرَيْتَ قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}

ويصل تثبيتُ اللهِ تعالى للصَّالحين إلى أن يطمئنُّوا في هذا الموقف الشديد لا يخافون، فسبحان الله، اللهم اجعلنا من هؤلاء آمين. كما روى ذلك ابن ماجه ورواه بمثله أحمد وغيره، فقال ابن ماجه:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ – ﷺ – قَالَ: “إِنَّ الْمَيِّتَ يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، فَيُجْلَسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلَا مَشْعُوفٍ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ فِي الْإِسْلَامِ

فعُلِم أنَّ القول الثابت هو لا إله إلا الله فيثبِّتُه الله في الدُّنيا والآخرة بالإسلام ويُضِلُّ الكافرَ عن ذلك، فلا يعلم في الآخرة. فكيفَ بِمن لم يعلم حقيقة لا إله إلا الله في الدُّنيا؟

 

فصل: أوَّلُ ما يُعَلَّمُ الصَّبِيُّ الإيمانُ باللهِ والكُفْرُ بالطَّاغُوت وَهُوَ الإسلام

بوَّب ابن أبي شيبة في المصنَّف، قال:

(باب) مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَلَّمَهُ الصَّبيُّ أَوَّلَ مَا يَتَعَلَّمُ

ثم ذكر فيه:

حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، يُعَلِّمُ وَلَدَهُ، يَقُولُ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَفَرْتُ بِالطَّاغُوتِ»

حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْعَوَّامِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: ” كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُلَقَّنُوا الصَّلَاةَ، وَيعْرِبُ أَوَّلَ مَا يَتَكَلَّمُ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَوَّلَ شَيْءٍ يُتَكَلَّمُ بِهِ”

والإيمانُ بالله والكفرُ بالطاغوت هذا معنى الإسلام، كما تبيَّن من قبل.

 

فصل: مِثالٌ يَضْرِبُه بعضُ مَن ضلَّ فِي هذا الزَّمانِ يَدُلُّ عَلَى سُوءِ الفَهْم

ومن الناس من يريد أن يبيِّن أنّ بعض المشركين مسلمون جهّالٌ في مثال وهميّ. لكن لو فهِموا حقيقة الشهادة لعلِموا أنّ هذا المثال يبيِّن خلافَ قولِهم. فيقولون نحوَ ما يلي:

(لو أنّ رجلاً آمن بالله عزّ وجلّ وبرسوله ثمّ إنّه في لحظةٍ مِن لحظات حياته شعَر بضِيق فتوسَّم في شيخ مسجده الذي يوجد بالقرية الصلاحَ فذهَب إليه وقال له: أشعُر بِكرب شديد وبضيق في صدري. فقال له الشيخ: سأدلُّك على علاج ربّانيّ، لقد قال النبيّ : إذا ضاقت الصدور فاستغيثوا بأصحاب القبور. فذهب الرجل يستغيث بأصحاب القبور ظنّاً منه أنّ رسول الله قد أمَره بذلك).

فيقال:

  • هذا الرجل في المثال لا يعرفُ معنى لا إله إلّا الله حَتماً، فلا يحقِّق شرط العلم ولذلك يستحيل إسلامه.
  • الرجل يعبدُ غير الله واتّخذ إلهاً من دون الله، فلا يمكن أن يوصف بأنّه محقّق لِلا إله إلّا الله. إنَه ليس مسلماً ولا مخلصاً ولا حنيفاً ولا متّبعاً لملّة إبراهيم.
  • إنّه ظنّ أنّ الميّتَ يستحقّ العبادة. ذلك لظنِّه أنّ هذا الميّت يُطلب منه ما لا يُطلب إلّا من الله تعالى، لأنّه حَسِبَ هذا مناسباً لمقام هذا الميّت.
  • تصديقه الخبرَ المكذوبَ يؤكِّد كلَّ ذلك، لأنّه لو علِم الإسلام حقيقةً لاستحال أن يقبَل أيَّ قولٍ مناقض لحقيقتِه وأن يترك أساس الملّة لهذا الخبر. فمَن عرَف دينَ الإسلام يقبَلُ خبراً مكذوباً يحسِّن له الشرك؟! سبحان الله، هذا لن يكون!

وكيف إذاً أمرُ مَن آمَن بمُسيلِمة الكذَّاب مِن بَنِي حنيفةَ وقد شهِد له أناسٌ عدَّةٌ عندَهم وكانوا يدَّعون أنَّه ينزِل عليه قرآن وكانوا يتلُون تلك الأرجاسَ في الصلاة، فهلَّا عذَرْتُموهم يا مَن يسعى جهداً في عذرِ المشرِكين؟ وإنْ قُلتُم: لا، لأنَّ ذلك أمر عظيم وهو ادِّعاء نبوَّةِ أحدٍ بعدَ النبيِّ ﷺ، قيل لكم: بل أنتم تجوِّزون ما هو أعظمُ مِن ذلك إذ الإشراكُ بالله أعظمُ مِن إشراك نبيٍّ مع نبيِّنا محمَّدٍ ﷺ. أَفَلا ينْتَهونَ عن مثلِ هذا الهراء؟

ولو أمكن مثل هذا الذي يصوِّرونه لجاز أنّ أحداً من المسلمين يصدِّق مَن جاءه وادّعى خبراً عن النبيّ ﷺ فيه بيانُ أنّ الله تعالى له ولد. فهل هذا ونظيرُه جائزٌ من مسلم؟ وهل يكون مَن يصدّق مثلَ هذا الخبرِ ويقبلُ ما فيه مسلماً معذوراً بالجهل، لأنّه أراد طاعة الله ورسوله؟

لا أظنّ أنّ إنساناً يحترمُ نفسَه يدّعي مثل ذلك، لكن كما سبق فهناك من يلتزم حتى هذا الباطل، ويفترض مسلماً يعبد عيسى بن مريم u ويظنّه ابن الله تعالى لحداثة عهده بالإسلام – كما يزعم هؤلاء!

وإن لم يجز أن يُفترضَ مسلمٌ يعتقد بُنوَّة عيسى u، فكذلك لا يجوز افتراض إسلام عبّاد القبور، لأنّ الجامع بينهم الشرك الأكبر. لكنّ المشكلة أنّ كثيراً من الناس اليوم لا يعرفون الإسلام ولذلك يُشكل عليهم التفريقُ بين المسلم والمشرك.

وعجيب جدّاً أنّ من يورد هذا المثال المذكور قبل قليل يقرّ بأنَّ هذا الرجل في المثال فعَل الشرك الأكبر الصريح، ثم يحتجُّ بأنّ التوحيد إنّما هو (إفراد الله بالطاعة المطلَقة)!

ومعنى هذا القول العجيب أن يقال إنّ هذا المشرك الجاهل قد حقَّق التوحيد! وهذا قول في غاية البطلان لا يخفى بطلانه على صِبيان المسلمين. إذ كيف يجرِّد التوحيد عن معانِيه حتى يجعل المُشرك الجاهل بحقيقةِ الإسلام محقِّقاً للتَّوحيد بِحجّة أنّه أراد الخير وأنّه إنّما أراد أن يطيع الله بشركه؟! لو التزم هذا الزاعم هذا الأصل الباطل في كل أحدٍ، لزم منه إدخال جماهير أهل الكفر والشرك في ملة الإسلام، ما عليهم إلا أن يزعموا أنهم إنما أرادوا أن يطيعوا الله. فهذا ينطَبق على كلِّ فِرقة تدَّعِي الإسلامَ وهي خارجة عنه في حقيقة الأمر، بل وينطبق على عُبَّاد الأوثان مِن مشركي العرب قديماً. فكيف يزعم مَن تصدَّر لِتَدريس العِلمِ الشرعيِّ مثلَ هذا، بل كيف يزعمه عاقل؟

  • ومع كلّ ما سبق يلاحظ أنّ هذا المثال بعيد جدّاً عن واقع الناس اليوم. وهذه مشكلة كبيرة أخرى مع أصحاب هذا القول، أنّهم لا يُنزّلون ما توصّلوا إليه على الرجل المفترَض في المثال فَحسبُ، بل ينزِّلونه على كثير من المشركين اليوم أو على معظمهم، مع البَون الشاسع بينهم وبين المذكور في المثال. فأيّ مناسبة لذكرِ هذا المثال عند أناس يَقرؤُون القرآن ويسمعونه يوميّاً، ولعلّ كثيراً منهم حفظ بعضه أو كلّه؟

وبذلك يظهر سوءُ قصدِ مَن يجادل عن بعض المشركين بحجّةِ الجهل والانتساب، فإنّهم يخالفون الصواب من وجوه كما ظهَر. إذ حتّى على قولهم الباطل لا يجوز أن يطبّقوه على عامَّة المشركين اليوم، مما يبيِّن أنّ قصدهم إنّما هو إعذار هؤلاء بكلّ شيء مَهما كان، نسأل الله لنا ولهم الهداية آمين.

 

فصل: أَمثِلةُ المُشركِ الجاهلِ وعَدَمُ عُذْرِه فِي القُرآن

  • قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)﴾ (سورة المؤمون)

سبَق مِن تفسير يحيى بن سلّام في هذه الآية قوله :

وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: لا بَيِّنَةَ لَهُ بِهِ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْبُدَ إِلَهًا مِنْ دُونِهِ.

وقال الطبري هنا:

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ الْمَعْبُودِ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ مَعْبُودًا آخَرَ، لَا حُجَّةَ لَهُ بِمَا يَقُولُ وَيَعْمَلُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا بَيِّنَةَ

ثمّ أسند عن السلف قال:

• عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} قَالَ: «بَيِّنَةٌ»

• عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} قَالَ: «لَا حُجَّةَ»

يعني ليست لهذا المشرك الدَّاعي إلهاً آخرَ حجّةٌ ولا بيّنةٌ لِفِعلِه هذا، ومع ذلك لم يعذره الله تعالى بل جعله من الكافرين.

  • وقال تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 29)

وقد مرّ كلام الطبري في هذه الآية:

يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَا يَسْتَوِي هَذَا الْمُشْتَرَكُ فِيهِ، وَالَّذِي هُوَ مُنْفَرِدٌ مُلْكُهُ لِوَاحِدٍ، بَلْ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ، فَهُمْ بِجَهْلِهِمْ بِذَلِكَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً شَتَّى مِنْ دُونِ اللَّهِ

Send this to a friend